استراتيجية دقيقة للفنون العامة في حي تاريخي يشهد طفرة نوعية

يُعد البلد أحد أبرز الأحياء التاريخية في الشرق الأوسط. ففضلاً عن تصنيفه ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، يظل هذا الحي المفعم بالنشاط والحيوية مكاناً ذا قيمة ثقافية بالغة الأهمية لأهل جدة عبر جميع الأجيال. وفي هذا السياق الحساس، أوكلت وزارة الثقافة إلى باركر لانغهام تطوير استراتيجية شاملة ومتكاملة للفنون العامة في حي البلد، توائم شخصيته المميزة وتستجيب لحِراكه الدائم والمعقد.

وفي هذا الصدد، تعاونا عن قرب مع أصحاب المصلحة المحليين والفرق التقنية والاستشاريين الدوليين لتطوير استراتيجية توازن بين التراث والابتكار، وبين خصوصيات الحياة اليومية والأهداف الثقافية الطموحة. وبالفعل، نجحنا في وضع إطار عمل تنظيمي وتنفيذي يغزل خيوط الفنون في نسيج حي البلد، ويرفد إمكانيات التجديد، ويعكس هوية المجتمعات المحلية، ويثري مظاهر الحياة اليومية في هذا المكان المميز.

دأب حي البلد وأهله عبر القرون على استقبال حجاج بيت الله الحرام والتجار والصناع في أزقته الضيقة والدافئة وبيوته العامرة المبنية بالحجر المرجاني. وتأتي استراتيجية الفنون العامة للاحتفاء بهذا التاريخ الغريق بشتى فصوله، مع إبراز الدور المستقبلي للحي في سياق الطفرة الثقافية التي تشهدها مدينة جدة.

وبدلاً من فرض سرديات مستحدثة تتعامل مع الحي كصفحة بيضاء، اعتمدنا في هذا المشروع نهجاً يستند إلى قصص وبُنى وأنماط اجتماعية من واقع الحي، للخروج بثلاثة توجهات ناظمة رئيسية تُبرز طبيعة الموقع الحيوية والنشطة. وبناءً على ذلك، حددنا مجموعة من الفضاءات العامة والساحات الهادئة والزوايا المنسية في حي البلد كمواقع ذات إمكانيات هائلة، وخططنا لإدراج الأعمال الفنية ضمن صيرورة قصة الحي التي تستمر فصولها في التكشف مع مرور الوقت، ولم نقاربها كإضافات إكسسوارية.

تستدعي عمارة حي البلد وشبكة أزقته المتشعبة وضع استراتيجية تنظيمية تراعي خصائصه المميِّزة بقدر ما تقدم حلولاً إبداعية ومُبتكرة. والتزاماً بهذين المبدأين، حددنا عدداً من المواقع التي وجدناها مناسبة لاحتضان أعمال فنية، من ساحات عامة وممرات مشاة وأسطح ومداخل، وطورنا تجارب سردية إبداعية تشجع على الاستكشاف والاستطلاع.

وعلى هذا النهج، وجَّه مخططنا الفنانين المعاصرين لتصميم أعمال فنية متأصلة في السياق المادي، وبالأخص في القصص الاجتماعية والوجدانية المنسوجة فيه، إن كانت من ذاكرة الأجيال السالفة أو من واقع الحياة اليومية أو من وحي القصص التي لم تكتمل أطوارها بعد. وهكذا تمُد استراتيجيتنا جسور الترابط بين الماضي والحاضر، وتبرز حي البلد كموضوع ومسرح لأعمال فنية تثري تجربة المكان بدون التشويش عليها.

بناءً على مخرجات أبحاثنا المعمقة والمستفيضة، طورنا حزمة من الخرائط والرسومات والرسوم البيانية منحت شكلاً مادياً لتصورات غير ملموسة. وكانت تلك الأدوات البصرية مفيدة في كشف الفرص الكامنة، وتحديد الأنماط المكانية، وتعيين المواقع المحتملة لاحتضان الأعمال الفنية عبر مختلف أرجاء حي البلد.

حلل فريقنا تلك البيانات بدقة عالية لتكشف عن المناطق التي تعرف نشاطاً أكبر مقارنة بغيرها، وأنماط الحركة والسكون، والمساحات المتشبعة بالذاكرة والسرديات وتفاصيل الحياة اليومية. وبتجميع هذه المعطيات، كونا فهماً مشتركاً للمواقع والأساليب التي من شأنها أن تسمح بتسكين الفن العام في الحِراك اليومي للمدينة.

بصفتتنا خبراء في تطوير الخطط الرئيسية الثقافية، تمثل دورنا في مشروع البلد في كشف وتوثيق وتجسيد الروابط التي تجمع الإنسان بالمكان. ولإنجاز هذه المهمة على أكمل وجه، كان لا بد من طرح ثلاثة أسئلة جوهرية: لماذا هذا الموقع بالذات؟ لمن؟ ما هي القصص الأكثر أهمية من غيرها؟

مزج نهجنا بفاعلية بين دراسة السياق المكاني والتجربة المُعاشة، مع الاستناد إلى المعارف والخبرات الاجتماعية والبيئية والثقافية، والتشاور مع المجتمعات المحلية التي تعرف حي البلد أكثر من غيرها. وهكذا أتاح لنا الجمع بين التراث المادي وغير المادي إرساء دعائم مكان يستمر في النمو دون التفريط في أصوله الثابتة.

ليس الغرض من الفن العام في البلد العرض والإبهار، وإنما خلق الروابط وتمتينها. لذا فإن استراتيجيتنا تضع المجتمع في قلب المخطط الرئيسي، تعزيزاً لمشاعر الانتماء والفخر والملكية المشتركة.

ودعماً لقدرة برنامج الفن العام على التكيف مع التغيرات الطارئة على الحي والاستجابة لها، طورنا إطار عمل طويل المدى لتوجيه الاستشارات والمشاركة، وأرفقناه بتوصيات شملت البرمجة والتكليفات المحلية وبناء القدرات. وبالتالي فإن استراتيجيتنا المُحكمة ساعدت في ترسيخ الهوية البصرية للحي ودعم نمائه الاجتماعي والاقتصادي، وأسهمت بذلك في إعطاء نفَس جديد لأحد أعرق أحياء المملكة العربية السعودية وأغناها موروثاً.